فصل: السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ، ثُمَّ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


الْقِسْمُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الزِّيَادَةُ

وَالْأَكْثَرُونَ يُنْكِرُونَ إِطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّأْكِيدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ بِالصِّلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الْمُقْحَمَ‏.‏

قَالَ ابْنُ جِنِّي‏:‏ ‏"‏ كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَبَابُهَا الْحُرُوفُ وَالْأَفْعَالُ‏.‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 13‏)‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 29‏)‏ قِيلَ‏:‏ كَانَ هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِعْجَازٌ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ كُلُّهُمْ كَانُوا فِي الْمَهْدِ، وَانْتَصَبَ صَبِيًّا عَلَى الْحَالِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ‏:‏ هِيَ فِي كَلَامِهِمْ زِيدَتْ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ، وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَاضِي فِي قَالُوا‏.‏

وَمِنْهُ زِيَادَةُ ‏"‏ أَصْبَحَ ‏"‏ قَالَ حَازِمٌ‏:‏ ‏"‏ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَصْبَحَ فِيهِ يَكُنْ أَمْسَى فِيهِ، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً، وَإِلَّا فَهِيَ زَائِدَةٌ؛ كَقَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏ أَصْبَحَ الْعَسَلُ حُلْوًا ‏"‏‏.‏

وَأَجَابَ الرُّمَّانِيُّ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏)‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 53‏)‏، ‏"‏ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تُزَادُ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ يَرْجُو الْفَرَجَ عِنْدَ الصَّبَاحِ، فَاسْتَعْمَلَ ‏"‏ أَصْبَحَ ‏"‏؛ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ جُعِلَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرْجُونَ فِيهِ الْفَرَجَ، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً‏.‏

وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ‏:‏ إِنَّهَا تَأْتِي لِلدَّوَامِ وَاسْتِمْرَارِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 25‏)‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 82‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 58‏)‏ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ لِظُهُورِ الصِّفَةِ نَهَارًا، وَالْمُرَادُ الدَّوَامُ أَيْضًا، أَيِ‏:‏ اسْتَقَرَّتْ لَهُ الصِّفَةُ نَهَارَهُ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَاللَّغْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالصِّلَةَ وَالْحَشْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْكُوفِيِّينَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ‏)‏ ‏(‏النِّسَاءَ‏:‏ 155‏)‏ إِنَّ ‏"‏ مَا ‏"‏ لَغْوٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُحْدِثْ شَيْئًا‏.‏

وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مُرَادَ النَّحْوِيِّينَ بِالزَّائِدِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ مَعْنَاهُ ‏"‏ مَا لِنْتَ لَهُمْ إِلَّا رَحْمَةً ‏"‏ وَهَذَا قَدْ جَمَعَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، ثُمَّ اخْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ، وَجَمَعَ فِيهِ بَيْنَ لَفْظَيِ الْإِثْبَاتِ وَأَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي هِيَ ‏"‏ مَا ‏"‏‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏)‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 171‏)‏، فَـ ‏"‏ إِنَّمَا ‏"‏ هَاهُنَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَتَمْحِيقٍ، إِنَّ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ، وَمَا لِلتَّمْحِيقِ فَاخْتَصَرَ، وَالْأَصْلُ‏:‏ ‏"‏ مَا اللَّهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ‏"‏‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ فِي ‏"‏ الْعُمْدَةِ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ زَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ أَلَّا صِلَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَالدَّهْمَاءُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّلَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسَعُنَا إِنْكَارُهُ فَذُكِرَ كَثِيرًا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ فِي ‏"‏ التَّوْجِيهِ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ زَائِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَمَا جَاءَ مِنْهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوْكِيدِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجَعَلَ وَجُودَهُ كَالْعَدَمِ؛ وَهُوَ أَفْسَدُ الطُّرُقِ‏.‏

وَقَدْ رُدَّ عَلَى فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ‏:‏ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُهْمَلَ لَا يَقَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً لِلتَّعَجُّبِ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ ‏"‏ فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ ‏"‏ فَجَعَلَ الزَّائِدَ مُهْمَلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ مَا أُتِيَ بِهِ لِغَرَضِ التَّقْوِيَةِ وَالتَّوْكِيدِ، وَالْمُهْمَلَ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ ‏[‏مَا أَتَى‏]‏، حَيْثُ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ إِهْمَالَ اللَّفْظِ، وَلَا كَوْنُهُ لَغْوًا فَتَحْتَاجُ إِلَى التَّنَكُّبِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا؛ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا ‏"‏ مَا ‏"‏ زَائِدَةً هُنَا لِجَوَازِ تَعَدِّي الْعَامِلِ قَبْلَهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا، لَا لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا مَعْنًى‏.‏

وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ‏:‏ إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ، فَقَدِ انْتُقِدَ عَلَيْهِ بِأَنْ قِيلَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ ‏"‏ فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ ‏"‏ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ ‏"‏ مَا ‏"‏ مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ، وَأَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ لَا يُضَافُ مِنْهَا غَيْرُ ‏"‏ أَيْ ‏"‏؛ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ كَانَ مَا بَعْدَهَا بَدَلًا مِنْهَا، وَالْمُبْدَلُ مِنَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ يَجِبُ مَعَهُ ذِكْرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ مَذْكُورَةً؛ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الدَّعْوَى؛ وَسَنُبَيِّنُ فِي فَصْلِ زِيَادَةِ الْحُرُوفِ الْفَائِدَةَ فِي إِدْخَالِ ‏"‏ مَا ‏"‏ هَاهُنَا فَانْظُرْ هُنَاكَ‏.‏

تَنْبِيهَاتٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ يُطْلِقُونَ الزَّائِدَ عَلَى وُجُوهٍ‏:‏ مِنْهَا مَا يُتَعَلَّقُ بِهِ هُنَا وَهُوَ مَا أُقْحِمَ تَأْكِيدًا نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 26‏)‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَمَعْنَى كَوْنِهِ زَائِدًا أَنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدُونِهِ دُونَ التَّأْكِيدِ؛ فَبِوُجُودِهِ حَصَلَ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ، وَالْوَاضِعُ الْحَكِيمُ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إِلَّا لِفَائِدَةٍ‏.‏

وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ بِالْحَرْفِ، وَمَا مَعْنَاهُ؛ إِذْ إِسْقَاطُ الْحَرْفِ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبَاعِ؛ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِوُجُودِ الْحَرْفِ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ لَا يَجِدُونَهُ بِإِسْقَاطِ الْحَرْفِ قَالَ‏:‏ وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ الْعَارِفِ بِوَزْنِ الشِّعْرِ طَبْعًا، فَإِذَا تَغَيَّرَ الْبَيْتُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ‏:‏ أَجِدُ نَفْسِي عَلَى خِلَافِ مَا أَجِدُهُ بِإِقَامَةِ الْوَزْنِ‏.‏

فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَغَيَّرُ نَفْسُ الْمَطْبُوعِ عِنْدَ نُقْصَانِهَا، وَيَجِدُ نَفْسَهُ بِزِيَادَتِهَا عَلَى مَعْنًى بِخِلَافِ مَا يَجِدُهَا بِنُقْصَانِهِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ حَقُّ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَرْفِ وَفِي الْأَفْعَالِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَنَصَّ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُزَادُ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِالزِّيَادَةِ؛ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 9‏)‏‏:‏ إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مُقْحَمٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مُخَادَعَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ آخِرًا وَحَشْوًا، وَأَمَّا وُقُوعُهَا أَوَّلًا فَلَا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ؛ إِذْ قَضِيَّةُ الزِّيَادَةِ إِمْكَانُ اطِّرَاحِهَا، وَقَضِيَّةُ التَّصْدِيرِ الِاهْتِمَامُ، وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِزِيَادَةِ لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 1‏)‏ وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ آخَرَ‏:‏ إِنَّهَا بِمَعْنَى ‏"‏ إِلَّا ‏"‏، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَدٌّ لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ؛ أَيْ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ‏:‏ ‏{‏أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 1‏)‏ وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى ‏"‏ لَا ‏"‏ وَفِيهِ بُعْدٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏‏[‏الزِّيَادَةُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏]‏

الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَالْبَاءِ فِي خَبَرِ لَيْسَ وَمَا، أَوْ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ، كَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ‏.‏

وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ سَبْعَةٌ‏:‏ إِنْ، وَأَنْ، وَلَا، وَمَا، وَمِنْ، وَالْبَاءُ، وَاللَّامُ، بِمَعْنَى أَنَّهَا تَأْتِي فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ زَائِدَةً؛ لَا أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلزِّيَادَةِ‏.‏

ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الزَّوَائِدِ فِيهَا، فَقَدْ زَادُوا الْكَافَ وَغَيْرَهَا؛ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ بِهَا‏.‏

فَأَمَّا ‏(‏إِنْ‏)‏ الْخَفِيفَةُ فَتَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا مَعَ مَا النَّافِيَةِ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏

حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ *** لَنَامُوا فَمَا إِنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِ

أَيْ‏:‏ فَمَا حَدِيثٌ، فَزَادَ ‏"‏ إِنْ ‏"‏ لِلتَّوْكِيدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ إِنِ الْخَفِيفَةُ زَائِدَةٌ فَجَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا النَّافِيَةِ؛ تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِهَا، فَهُوَ عِنْدَ الْفَرَّاءِ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنَ التَّأْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 26‏)‏ أَنَّهَا زَائِدَةٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نَافِيَةٌ؛ وَالْأَصْلُ ‏"‏ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ‏"‏ بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 6‏)‏ وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ‏"‏ مَا ‏"‏ لِئَلَّا تَتَكَرَّرُ فَيُثْقُلُ اللَّفْظُ‏.‏

وَوَهِمَ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهَا تُزَادُ بَعْدَ ‏"‏ لَمَّا ‏"‏ الْإِيجَابِيَّةُ؛ وَإِنَّمَا تِلْكَ فِي ‏"‏ أَنْ ‏"‏ الْمَفْتُوحَةِ‏.‏

وَأَمَّا أَنِ الْمَفْتُوحَةُ فَتُزَادُ بَعْدَ لَمَّا الظَّرْفِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 33‏)‏، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِزِيَادَتِهَا لِأَنَّ لَمَّا ظَرْفُ زَمَانٍ وَمَعْنَاهَا وُجُودُ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ غَيْرُ الْمُتَمَكِّنَةِ لَا تُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ، وَ ‏"‏ أَنِ ‏"‏ الْمَفْتُوحَةُ تَجْعَلُ الْفِعْلَ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ، فَلَمْ تَبْقَ ‏"‏ لَمَّا ‏"‏ مُضَافَةً إِلَى الْجُمَلِ؛ فَلِذَلِكَ حُكِمَ بِزِيَادَتِهَا‏.‏

وَجَعَلَ الْأَخْفَشُ مِنْ زِيَادَتِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 12‏)‏، ‏{‏وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 246‏)‏، وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْأَصْلُ‏:‏ ‏"‏ وَمَا لَنَا فِي أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا ‏"‏ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً؛ لِأَنَّهَا عَمِلَتِ النَّصْبَ فِي الْمُضَارِعِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ مَا ‏"‏ فَتُزَادُ بَعْدَ خَمْسِ كَلِمَاتٍ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ؛ فَتُزَادُ بَعْدَ ‏"‏ مِنْ ‏"‏ وَ ‏"‏ عَنْ ‏"‏ غَيْرَ كَافَّةٍ لَهُمَا عَنِ الْعَمَلِ، وَتُزَادُ بَعْدَ الْكَافِ، وَرُبَّ، وَالْبَاءِ، كَافَّةً تَارَةً وَغَيْرَ كَافَّةٍ أُخْرَى‏.‏

فَأَمَّا الْكَافَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِإِنَّ وَأَخَوَاتِهَا، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 171‏)‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 6‏)‏ وَجَعَلُوا مِنْهَا ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 28‏)‏ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى ‏"‏ الَّذِي ‏"‏ وَ ‏"‏ الْعُلَمَاءُ ‏"‏ خَبَرٌ، وَالْعَائِدُ مُسْتَتِرٌ فِي يَخْشَى، وَأُطْلِقَتْ ‏"‏ مَا ‏"‏ عَلَى جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 3‏)‏‏.‏

وَإِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 138‏)‏، وَقِيلَ‏:‏ بَلْ مَوْصُولَةٌ؛ أَيْ‏:‏ ‏"‏ كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ آلِهَةٌ ‏"‏‏.‏

وَغَيْرُ الْكَافَّةِ تَقَعُ بَعْدَ الْجَازِمِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 200‏)‏، ‏{‏أَيًّا مَا تَدْعُوا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 110‏)‏، ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 78‏)‏‏.‏

وَبَعْدَ الْخَافِضِ حَرْفًا كَانَ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 13‏)‏، ‏{‏عَمَّا قَلِيلٍ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 40‏)‏، ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ ‏(‏نُوحٍ‏:‏ 25‏)‏، أَوِ اسْمًا، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 28‏)‏‏.‏

وَتُزَادُ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ؛ جَازِمَةً كَانَتْ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 78‏)‏ أَوْ غَيْرَ جَازِمَةٍ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 20‏)‏‏.‏

وَبَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَتَابِعِهِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏مَثَلًا مَا بَعُوضَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 26‏)‏، قَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ ‏"‏ مَا ‏"‏ حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ عِنْدَ جَمِيعٍ الْبَصْرِيِّينَ ‏"‏‏.‏

انْتَهَى‏.‏

وَيُؤَيِّدُهُ سُقُوطُهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ ‏"‏ بَعُوضَةً ‏"‏ بَدَلٌ، وَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ مَا ‏"‏ اسْمُ نَكِرَةٍ صِفَةٌ لِـ ‏"‏ مَثَلًا ‏"‏، أَوْ بَدَلٌ وَ ‏"‏ بَعُوضَةً ‏"‏ عَطْفُ بَيَانٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 88‏)‏ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ وَقَلِيلًا فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَوْ لِإِفَادَةِ التَّقْلِيلِ كَمَا فِي نَحْوِ أَكَلْتُ أَكْلًا مَا، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ ‏"‏ فَقَلِيلًا بَعْدَ قَلِيلٍ‏.‏ ‏"‏ وَأَمَّا ‏"‏ لَا ‏"‏ فَتُزَادُ مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 34‏)‏؛ لِأَنَّ ‏"‏ اسْتَوَى ‏"‏ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمَيْنِ؛ أَيْ‏:‏ لَا تَلِيقُ بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏"‏ اخْتَصَمَ ‏"‏، فَعُلِمَ أَنَّ ‏"‏ لَا ‏"‏ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ‏:‏ دَخَلَتْ فِي السَّيِّئَةِ لِتُحَقِّقَ أَنَّهُ لَا تُسَاوِي الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَلَا السَّيِّئَةُ الْحَسَنَةَ‏.‏

وَتُزَادُ بَعْدَ ‏"‏ أَنِ ‏"‏ الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 29‏)‏ أَيْ‏:‏ لِيَعْلَمَ؛ وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الزِّيَادَةِ لَانْعَكَسَ الْمَعْنَى، فَزِيدَتْ ‏"‏ لَا ‏"‏ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ‏.‏

قَالَهُ ابْنُ جِنِّي‏.‏

وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ مَلْكُونَ‏:‏ ‏"‏ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ ‏"‏ وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّلُوبِينُ‏:‏ ‏"‏ بِأَنَّ هُنَا مَا مَعْنَاهُ النَّفْيُ ‏"‏ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 29‏)‏ وَيَكُونُ هَذَا مِنْ وُقُوعِ النَّفْيِ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدًا ‏"‏ فَأَبْدَلْتَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي ‏"‏ يَقُولُ ‏"‏ مَا بَعْدَ ‏"‏ إِلَّا ‏"‏ وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْيِ، فَكَمَا كَانَ النَّفْيُ هُنَا وَاقِعًا عَلَى الْعِلْمِ وَحُكِمَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِحُكْمِهِ، كَذَلِكَ يَكُونُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ أَيْضًا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَيُحْكَمُ لِلْعِلْمِ بِحُكْمِ النَّفْيِ، فَيَدْخُلُ عَلَى الْعِلْمِ تَوْكِيدُ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ تَأْكِيدُ نَفْيِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ‏.‏

وَإِذَا كَانُوا قَدْ زَادُوا ‏"‏ لَا ‏"‏ فِي الْمُوجَبِ الْمَعْنَى لَمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ فِي الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏)‏ الْمَعْنَى ‏"‏ أَنْ تَسْجُدَ ‏"‏ فَزَادَ ‏"‏ لَا ‏"‏ تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ‏"‏ مَنَعَكَ ‏"‏، فَكَذَلِكَ تُزَادُ لَا فِي الْعِلْمِ الْمُوجَبِ؛ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمُوَجَّهُ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ الشَّلُوبِينُ‏:‏ وَأَمَّا زِيَادَةُ لَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 29‏)‏ فَشَيْءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ ‏(‏لَا‏)‏ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ يَقْتَضِيهِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ‏:‏ ‏(‏لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏)‏ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏(‏لِكَيْ يَعْلَمَ‏)‏ وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَفْسِيرٌ لِزِيَادَتِهَا، وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَّا، وَكَفَرُوا مَعَ ذَلِكَ بِهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 29‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏)‏ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏، وَلَيْسَ الْمَعْنَى‏:‏ مَا مَنَعَكَ مِنْ تَرْكِ السُّجُودِ‏؟‏ فَإِنَّهُ تَرْكٌ، فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ؛ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الشَّيْءِ دَاعٍ إِلَى تَرْكِهِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْفِعْلِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا مَنَعَكَ مِنْ أَلَّا تَسْجُدَ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءُ الْمَنْعِ عَلَى أَصْلِهِ، وَعَدَمُ زِيَادَتِهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ كَثِيرٌ كَثْرَةً لَا تَصِلُ إِلَى الْمَجَازِ وَالزِّيَادَةِ فِي دَرَجَتِهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهَا تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ وَضْعَ ‏"‏ لَا ‏"‏ نَفْيُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِلْإِثْبَاتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُصُولَ الْحُكْمِ مَعَ الْمُعَارِضِ أَثْبَتُ مِمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ الْمُعَارِضُ، أَوْ أَسْقَطَ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْقُطَ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 92- 93‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَقَدْ تُزَادُ قَبْلَ الْقَسَمِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ‏}‏ ‏(‏الْمَعَارِجِ‏:‏ 40‏)‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 75‏)‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 1‏)‏ أَيْ‏:‏ أُقْسِمُ بِثُبُوتِهَا‏.‏

وَضُعِّفَ فِي الْأَخِيرَةِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَدْرًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، لِوُقُوعِهَا بَيْنَ الْفَاءِ وَمَعْطُوفِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ زِيدَتْ تَوْطِئَةً لِنَفْيِ الْجَوَابِ؛ أَيْ‏:‏ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ سُدًى‏.‏

وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ ‏(‏الْبَلَدِ‏:‏ 1‏)‏ الْآيَاتِ، فَإِنَّ جَوَابَهُ مُثْبَتٌ، وَهُوَ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ ‏(‏الْبَلَدِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ غَيْرُ زَائِدَةٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ رَدٌّ لِكَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِادِّعَاءُ فِي سُورَةٍ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي أُخْرَى، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى ‏"‏ لَا ‏"‏ هَذِهِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏‏.‏

فَقِيلَ‏:‏ زَائِدَةٌ لِيَصِحَّ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الشِّرْكُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نَافِيَةٌ أَوْ نَاهِيَةٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 109‏)‏ فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ لَا ‏"‏ زَائِدَةٌ، وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ‏.‏

وَرَدَّهُ الزَّجَّاجُ بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْكَسْرِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ الْفَتْحِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نَافِيَةٌ، وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ؛ أَيْ‏:‏ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 95‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ لَا ‏"‏ زَائِدَةٌ، وَالْمَنْعُ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا فَـ ‏"‏ حَرَامٌ ‏"‏ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ ‏"‏ أَنَّ وَصِلَتُهَا ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 79- 80‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ ‏(‏يَأْمُرَكُمْ‏)‏ عَطْفًا عَلَى ‏(‏يُؤْتِيَهُ‏)‏ فَـ ‏"‏ لَا ‏"‏ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى النَّفْيِ السَّابِقِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عُطِفَ عَلَى ‏(‏يَقُولَ‏)‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُنَصِّبَهُ اللَّهُ لِلدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ الْأَنْدَادِ، ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ، وَيَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَتْ زَائِدَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ عِبَادَةِ عُزَيْرٍ وَعِيسَى، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ‏:‏ أَنَتَّخِذُكَ رَبًّا‏؟‏ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ مِنْ ‏"‏ فَإِنَّهَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 59‏)‏ ‏{‏مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 3‏)‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 271‏)‏‏.‏

وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ زِيَادَتَهَا مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 34‏)‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏(‏نُوحٍ‏:‏ 4‏)‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 23، الْكَهْفِ‏:‏ 31‏)‏ ‏{‏وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 271‏)‏‏.‏

وَأَمَّا مَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 13‏)‏ فَـ ‏"‏ مَا ‏"‏ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ زَائِدَةٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا فَائِدَةً جَلِيلَةً، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَبِنَقْضِهِمْ لَعَنَّاهُمْ ‏"‏ جَوَّزْنَا أَنَّ اللِّينَ وَاللَّعْنَ كَانَا لِلسَّبَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَدْخَلَ ‏(‏مَا‏)‏ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ قَطَعْنَا بِأَنَّ اللِّينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلرَّحْمَةِ، وَأَنَّ اللَّعْنَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِأَجْلِ نَقْضِ الْمِيثَاقِ‏.‏

وَأَمَّا الْبَاءُ فَتُزَادُ فِي الْفَاعِلِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏"‏ كَفَى بِاللَّهِ ‏"‏، أَيْ‏:‏ كَفَى اللَّهُ، وَنَحْوَ‏:‏ ‏"‏ أَحْسِنْ بِزَيْدٍ ‏"‏ إِلَّا أَنَّهَا فِي التَّعَجُّبِ لَازِمَةٌ، وَيَجُوزُ حَذْفُهَا فِي فَاعِلِ ‏{‏كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 43‏)‏ ‏{‏وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 47‏)‏ وَإِنَّمَا هُوَ ‏"‏ كَفَى اللَّهُ ‏"‏ وَ ‏"‏ كَفَانَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ ‏"‏ دَخَلَتْ لِتَضَمُّنِ ‏"‏ كَفَى ‏"‏ مَعْنَى اكْتَفَى؛ وَهُوَ حَسَنٌ ‏"‏‏.‏

وَفِي الْمَفْعُولِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 195‏)‏؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 19‏)‏ وَنَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 25‏)‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 14‏)‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 15‏)‏، ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 25‏)‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 33‏)‏ أَيْ‏:‏ يَمْسَحُ السُّوقَ مَسْحًا‏.‏

وَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ‏:‏ ضَمَّنَ ‏"‏ تُلْقُوا ‏"‏ مَعْنَى ‏"‏ تُفْضُوا ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبَبِ أَيْدِيكُمْ؛ كَمَا يُقَالُ‏:‏ لَا تُفْسِدْ أَمْرَكَ بِرَأْيِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 20‏)‏ إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ؛ وَالْمُرَادُ‏:‏ تُنْبِتُ الدُّهْنَ‏.‏

وَفِي الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ قَلِيلٌ؛ وَمِنْهُ عِنْدُ سِيبَوَيْهِ‏:‏ ‏{‏بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ ‏(‏ن‏:‏ 6‏)‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ ‏(‏بِأَيِّكُمْ‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِالْمَفْتُونِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فَقِيلَ‏:‏ ‏(‏الْمَفْتُونُ‏)‏ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفِتْنَةِ، وَقِيلَ‏:‏ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ‏:‏ ‏(‏فِي أَيِّكُمُ الْجُنُونُ‏)‏‏.‏

وَفِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 27‏)‏ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ الْبَاءُ زَائِدَةٌ ‏"‏ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 40‏)‏‏.‏

وَفِي خَبَرِ لَيْسَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 40‏)‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 36‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي ‏"‏ الْمُقَرَّبِ ‏"‏‏:‏ وَتُزَادُ فِي نَادِرِ كَلَامٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 40‏)‏ انْتَهَى‏.‏

وَمُرَادُهُ الْآيَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 33‏)‏ وَلِذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْإِسْرَاءِ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 99‏)‏‏.‏

وَزَعَمَ ابْنُ النَّحَّاسِ أَنَّهُ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُولَى؛ أَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 40‏)‏ فَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي خَبَرِ لَيْسَ؛ لِأَنَّ ‏"‏ لَيْسَ ‏"‏ هُنَا بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ، فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ فِي نَادِرِ ‏"‏ فِي الْقِيَاسِ لَا فِي الِاسْتِعْمَالِ‏.‏

وَأَمَّا اللَّامُ فَتُزَادُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏

وَمَلَكْتَ مَا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَيَثْرِبَ *** مُلْكًا أَجَارَ لِمُسْلِمٍ وَمُعَاهِدِ

وَجَعَلَ مِنْهُ الْمُبَرِّدُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَدِفَ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 72‏)‏ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ضُمِّنَ ‏(‏رَدِفَ‏)‏ مَعْنَى اقْتَرَبَ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 26‏)‏ ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 71‏)‏ فَقِيلَ‏:‏ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ‏:‏ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ‏:‏ يُرِيدُ اللَّهُ التَّبْيِينَ وَلِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ؛ أَيْ‏:‏ فَيَجْمَعُ لَكُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 12‏)‏ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ‏:‏ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ مَزِيدَةً مِثْلَهَا فِي‏:‏ ‏"‏ أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ ‏"‏ وَلَا تُزَادُ إِلَّا مَعَ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ خَاصَّةً دُونَ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، كَأَنَّهَا زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا أَتَتِ السِّينُ فِي ‏"‏ أَسْطَاعَ ‏"‏- يَعْنِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ- عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ ‏"‏ أَطُوعُ ‏"‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَجِيئُهُ بِغَيْرِ لَامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 12‏)‏ انْتَهَى‏.‏

وَزِيَادَتُهَا فِي‏:‏ ‏"‏ أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ ‏"‏ لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ؛ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لَهَا فِي إِعْرَابِ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 26‏)‏‏.‏

وَتُزَادُ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ الضَّعِيفِ إِمَّا لِتَأَخُّرِهِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 154‏)‏ وَنَحْوَ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 43‏)‏‏.‏

أَوْ لِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 91‏)‏، ‏{‏فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 16‏)‏ ‏{‏نَزَّاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ ‏(‏الْمَعَارِجِ‏:‏ 16‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مِنْهُ ‏(‏إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقَرٍّ مَحْذُوفٍ صِفَةً لِعَدُوٍّ، وَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ‏.‏

وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّأَخُّرُ وَالْفَرْعِيَّةُ، فِي نَحْوِ‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 78‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نَذِيرًا لِلْبَشَرِ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 36‏)‏، فَإِنْ كَانَ نَذِيرًا بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ فَهُوَ مِثْلَ‏:‏ ‏{‏فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 16‏)‏ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ فَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي ‏"‏ سُقْيًا لِزَيْدٍ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ تَجِيءُ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَتُسَمَّى لَامَ الْجُحُودِ، وَتَقَعُ بَعْدَ كَانَ مِثْلَ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 33‏)‏ اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي خَبَرِ لَيْسَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ ‏"‏ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ‏:‏ ‏"‏ مَا كُنْتُ أَضْرِبُكَ ‏"‏ بِغَيْرِ لَامٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ كَوْنُهُ‏:‏ فَإِذَا قُلْتَ‏:‏ ‏"‏ مَا كُنْتُ لِأَضْرِبَكَ ‏"‏ فَاللَّامُ جَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَكُونُ أَصْلًا‏.‏

وَقَدْ تَأْتِي مُؤَكَّدَةً فِي مَوْضِعٍ، وَتُحْذَفُ فِي آخَرَ؛ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 15- 16‏)‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ، وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا، وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ الْعَكْسَ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ الْإِنْكَارُ لَكِنْ فِي النَّظْمِ وُجُوهٌ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْبَعْثَ لَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَيْهِ صَارَ الْمُنْكِرُ لَهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْبَدَهِيَّاتِ؛ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مَا بَعْدَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ؛ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَزَّلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا لَوْ تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ‏.‏

وَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنَ التَّمَادِي فِي الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَمَلِ لِمَا بَعْدَهُ، وَالِانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مِنْ أَمَارَاتِ إِنْكَارِ الْمَوْتِ، فَلِهَذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَيِّتُونَ ‏"‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ تَمُوتُونَ ‏"‏ وَإِنَّمَا أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا؛ لِظُهُورِ أَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ لِلْإِنْكَارِ، إِذَا تَأَمَّلُوا فِيهَا، وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏ تُبْعَثُونَ ‏"‏ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ تَمُوتُونَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى ‏"‏ مَيِّتُونَ ‏"‏ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَكَّدَهُ، وَكَذَّبَ مُنْكِرَهُ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 7‏)‏ قَالَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفِرْكَاحِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ اللَّامِ؛ وَكَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ ‏"‏ لَتُبْعَثُونَ ‏"‏، وَاسْتُغْنِيَ بِهَا فِي الثَّانِي لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ؛ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ، فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ؛ فَكَأَنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ؛ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ، وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِـ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ أُبْرِزَ بِصُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتُوجِبُ مَا جَاءَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَذْفُ اللَّامِ فِي ‏(‏تُبْعَثُونَ‏)‏؛ لِأَنَّ اللَّامَ تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، فَلَا يُجَاءُ بِهِ مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ، وَلِأَنَّ تُبْعَثُونَ عَامِلٌ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 124‏)‏ فَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ‏.‏

وَنَظِيرُ هَذَا آيَةُ الْوَاقِعَةِ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 65‏)‏ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمَاءِ‏:‏ ‏{‏لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 70‏)‏ بِغَيْرِ لَامٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مِلْحًا أَسْهَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ جَعْلِ الْحَرْثِ حُطَامًا؛ إِذِ الْمَاءُ الْعَذْبُ يَمُرُّ بِالْأَرْضِ السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، فَالتَّوَعُّدُ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَعَّدَ عَبْدَهُ بِالضَّرْبِ بِعَصَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ، وَإِذَا تَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ احْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّ جَعْلَ الْحَرْثِ حُطَامًا قَلْبٌ لِلْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَجَعْلَ الْمَاءِ أُجَاجًا قَلْبٌ لِلْكَيْفِيَّةِ فَقَطْ، وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ لَمَّا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُعَلِّقَةً ثَانِيَتَهُمَا بِالْأُولَى تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أَتَى بِاللَّامِ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَذَفَ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عُلِمَ لَمْ يُبَالِ بِإِسْقَاطِهِ عَنِ اللَّفْظِ وَيُسَاوِي لِشُهْرَتِهِ حَذْفَهُ وَإِثْبَاتَهُ، مَعَ مَا فِي حَذْفِهِ مِنْ خِفَّةِ اللَّفْظِ وَرَشَاقَتِهِ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا وَالْمَسَافَةُ قَصِيرَةٌ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا ثَانِيًا‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ اللَّامَ أُدْخِلَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمْرِ الْمَشْرُوبِ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ، ذَكَرَهَا وَالَّذِي قَبْلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 1‏)‏ وَإِثْبَاتُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 41‏)‏ الْآيَةَ، وَالْجَوَابُ أَنَّكَ إِذًا عَطَفْتَ عَلَى مَجْرُورٍ‏.‏

الْقِسْمُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ بَابُ الِاشْتِغَالِ

فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا أُضْمِرَ ثُمَّ فُسِّرَ كَانَ أَفْخَمَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إِضْمَارٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَجِدُ اهْتِزَازًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 100‏)‏‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 31‏)‏‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 30‏)‏ لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فَإِذَا قُلْتَ‏:‏ وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَجِرْهُ‏.‏

وَقَوْلُكَ‏:‏ لَوْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، وَقَوْلُكَ‏:‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَأَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَقَوْلُكَ‏:‏ هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا إِذِ الْفِعْلُ الْمُفَسَّرُ فِي تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ ‏(‏الِانْشِقَاقِ‏:‏ 1‏)‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ‏}‏ ‏(‏الِانْفِطَارِ‏:‏ 1‏)‏ وَنَظَائِرُهُ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ بِضَمِيرِهِ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ التَّعْلِيلُ فِي الْقُرْآنِ

بِأَنْ يَذَكُرَ الشَّيْءَ مُعَلَّلًا؛ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَا عِلَّةٍ، لِوَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ قَاضِيَةٌ بِعُمُومِ الْمَعْلُولِ؛ وَلِهَذَا اعْتَرَفَتِ الظَّاهِرِيَّةُ بِالْقِيَاسِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ النُّفُوسَ تَنْبَعِثُ إِلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا؛ وَغَالِبُ التَّعْلِيلِ فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْعِلَّةِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 53‏)‏ ‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 1‏)‏ ‏{‏إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 103‏)‏‏.‏

وَتَوْضِيحُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْفَاءَ السَّبَبِيَّةَ لَوْ وُضِعَتْ مَكَانَ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏ لَحَسُنَ‏.‏

وَالطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ أَنْوَاعٌ‏:‏ الْأَوَّلُ‏:‏ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏)‏، وَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا لِكَذَا، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا لِكَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 97‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 97‏)‏‏.‏

‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 29‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏)‏‏.‏

‏{‏وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 11‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 126‏)‏ وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ اللَّامُ فِيهِ لِلْعَاقِبَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 8‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 53‏)‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا‏:‏ إِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ، أَيْ‏:‏ لَا تَجِبُ؛ وَلَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْحِكْمَةِ، وَقَدْ أَجَابَ الْمَلَائِكَةَ عَنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏‏.‏

وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ سُبْحَانَهُ مْجَرَّدًا عَنِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ لَمْ يَسْأَلِ الْمَلَائِكَةُ عَنْ حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصَالِحِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ؛ وَلِأَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَجْهَلُ الْعَاقِبَةَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 8‏)‏ وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ؛ وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحِكْمَةِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْحِكْمَةِ‏.‏ ثُمَّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ الْتِقَاطَهُمْ لَهُ إِنَّمَا كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَذَكَرَ فِعْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي كَوْنِهِ حَزَنًا لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ‏.‏

قَاعِدَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ‏:‏

حَيْثُ دَخَلَتْ وَاوُ الْعَاطِفِ عَلَى لَامِ التَّعْلِيلِ فَلَهُ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُعَلِّلُهُ مَحْذُوفٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 17‏)‏ فَالْمَعْنَى‏:‏ وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ؛ لِيُظْهِرَ صِحَّةَ الْعَطْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 22‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَلِتُجْزَى‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 21‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلِنُعَلِّمَهُ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَفِي الثَّانِي عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ‏.‏

وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا الْكَلَامُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 259‏)‏، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ‏:‏ ‏"‏ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً فِعْلُنَا ذَلِكَ ‏"‏، وَعَلَى الثَّانِي‏:‏ ‏"‏ وَلِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً ‏"‏ وَيَطَّرِدُ الْوَجْهَانِ فِي نَظَائِرِهِ، وَيُرَجَّحُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَحَذْفُ الْمُعَلِّلِ هَاهُنَا أَرْجَحُ؛ إِذْ لَوْ فَرَضَ عِلَّةً أُخْرَى لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُعَلِّلٍ مَحْذُوفٍ، وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ لَهُ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ لِمَ قُدِّرَ الْمُعَلِّلُ مُؤَخَّرًا‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ فَائِدَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُوَ أَنْ يُجَاءَ بِالْعِلَّةِ بِالْوَاوِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عِلَّةً أُخْرَى لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ اخْتِصَاصُ ذِكْرِهَا لِكَوْنِهَا أَهَمُّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُعَلِّلٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِيُشْعِرَ تَقْدِيمُهُ بِالِاهْتِمَامِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْإِتْيَانُ بِكَيْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 7‏)‏ فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ الْفَيْءَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ؛ كَيْلَا يَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 22- 23‏)‏ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ أَوِ الْمُصِيبَةُ أَوِ الْأَرْضُ أَوِ الْمَجْمُوعُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ الَّتِي مِنْهَا أَلَّا يَحْزَنَ عِبَادُهُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ، وَلَا بُدَّ قَدْ كُتِبَتْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ هَانَ عَلَيْهِمُ الْفَائِتُ، فَلَمْ يَأْسُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْرَحُوا‏.‏

الرَّابِعُ ذِكْرُ الْمَفْعُولِ لَهُ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 89‏)‏‏.‏

وَنَصْبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 44‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 150‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 17‏)‏ أَيْ‏:‏ لِأَجْلِ الذِّكْرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 58‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا‏}‏ ‏(‏الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 5- 6‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 19‏)‏ فَـ ‏"‏ مِنَ الصَّوَاعِقِ ‏"‏ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ ‏"‏ مِنْ ‏"‏ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ‏:‏ خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلِّلَةً بِمَعْنَى اللَّامِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ‏:‏ لِغَمٍّ‏.‏

وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَـ ‏"‏ مِنَ الصَّوَاعِقِ ‏"‏ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ ‏(‏يَجْعَلُونَ‏)‏ وَ ‏(‏حَذَرَ الْمَوْتِ‏)‏ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا، فَالْعَامِلُ فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ فَـ ‏"‏ مِنَ الصَّوَاعِقِ ‏"‏ عِلَّةٌ لِـ ‏"‏ يَجْعَلُونَ ‏"‏ مَعْلُولٌ لِحَذَرَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ ‏"‏ مِنَ الصَّوَاعِقِ ‏"‏ يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا‏:‏ لِمَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ‏؟‏ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ ‏"‏ حَذَرَ الْمَوْتِ ‏"‏ يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا‏:‏ لِمَ يَخَافُونَ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏؟‏ فَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ اللَّامُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ الْبَاءُ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 160‏)‏‏.‏

وَمِنْ نَحْوِ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏

وَالْكَافُ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 151‏)‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 152‏)‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 239‏)‏ أَيْ‏:‏ لِإِرْسَالِنَا وَتَعْلِيمِنَا‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ الْإِتْيَانُ بِإِنَّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏(‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 20‏)‏، ‏{‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 103‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 53‏)‏‏.‏

‏{‏فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 10‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 76‏)‏، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْجُمْلَةِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 65‏)‏ وَالْوَقْفُ عَلَى الْقَوْلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالِابْتِدَاءُ بِـ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏ لَازِمٌ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةً لِعِلَّةٍ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 65- 66‏)‏‏.‏

وَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَهْلِ الْمَعَانِي‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنَّ سُؤَالَهُمْ لِصَرْفِ الْعَذَابِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ غَرَامٌ، أَيْ‏:‏ مُلَازِمٌ الْغَرِيمَ، وَبِأَنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ ‏"‏ سَاءَتْ ‏"‏ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَرَامًا‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ أَنَّ وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 156‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 56‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 92‏)‏ كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ لِمَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِلْحُزْنِ‏.‏

فَقِيلَ‏:‏ لِمَ حَزِنُوا‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ لِئَلَّا يَجِدُوا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 282‏)‏‏.‏

وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ لِلْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْمَعْنَى لِئَلَّا يَقُولُوا، وَلِئَلَّا تَقُولُ نَفْسٌ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ لِلْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ‏:‏ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا، أَوْ‏:‏ حَذَارِ أَنْ يَقُولُوا، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 282‏)‏ فَإِنَّكَ إِذَا قَدَّرْتَ‏:‏ ‏"‏ لِئَلَّا تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ‏"‏ لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ ‏"‏ فَتُذَكِّرَ ‏"‏ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَّرْتَ‏:‏ ‏"‏ حَذَارِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ‏"‏ لَمْ يَسْتَقِمِ الْعَطْفُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الضَّلَالَةُ عِلَّةً لِشَهَادَتِهِمَا‏.‏

قِيلَ‏:‏ بِظُهُورِ الْمَعْنَى يَزُولُ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إِذْكَارُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِذَا ضَلَّتْ وَنَسِيَتْ، فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلْإِذْكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ الْعِلَّةِ؛ كَمَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏ أَعْدَدْتُ هَذِهِ الْخَشَبَةَ أَنْ تَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمُ بِهَا ‏"‏ فَإِنَّمَا أَعْدَدْتُهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ، وَأَعْدَدْتُ هَذَا الدَّوَاءَ أَنْ أَمْرَضَ فَأُدَوَاى بِهِ وَنَحْوُهُ، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ‏.‏

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ فِي ‏"‏ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِنْ ضَلَّتْ ‏"‏، فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ، فَفُتِحَتْ ‏"‏ أَنْ ‏"‏‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ‏}‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 32‏)‏ فَإِنَّهُ لِتَعْلِيلِ الْكَتْبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى ‏{‏مِنَ النَّادِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 31‏)‏ وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ مِنَ النَّادِمِينَ ‏"‏ أَيْ‏:‏ مِنْ أَجْلِ قَتْلِهِ لِأَخِيهِ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ صِحَّةَ النَّظْمِ وَيُخِلُّ بِالْفَائِدَةِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لِلْآخَرِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ‏؟‏ وَإِذَا كَانَ عِلَّةً فَكَيْفَ كَانَ قَتْلُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَاتِلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ أَقْضِيَتَهُ وَأَقْدَارَهُ عِلَلًا لِأَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمْرِهِ، فَجَعَلَ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ عِلَّةً لِحِكْمَةِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَخَّمَ أَمَرَهُ، وَعَظَّمَ شَأْنَهُ، وَجَعَلَ إِثْمَهُ أَعْظَمَ مِنْ إِثْمِ غَيْرِهِ، وَنَزَّلَ قَاتِلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مَنْزِلَةَ قَاتِلِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا فِي أَصْلِ الْعَذَابِ لَا فِي وَصْفِهِ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ التَّعْلِيلُ بِـ ‏"‏ لَعَلَّ ‏"‏، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ قِيلَ‏:‏ هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اعْبُدُوا‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏خَلَقَكُمْ‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 183‏)‏ حَيْثُ لُمِحَ فِيهَا مَعْنَى الرَّجَاءِ رَجَعَتْ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ ذِكْرُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ؛ فَتَارَةً يُذْكَرُ بِأَنَّ، وَتَارَةً بِالْفَاءِ، وَتَارَةً يُجَرَّدُ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 89‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَاشِعِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 90‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 15- 16‏)‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 38‏)‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 277‏)‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 45- 46‏)‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 277‏)‏‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ تَعْلِيلُهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 33‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 27‏)‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 59‏)‏ أَيْ‏:‏ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ، لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ الَّتِي تَأْتِي مِنْهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 44‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 8‏)‏ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَمْنَعُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ، وَإِنَّ عِنَايَتَهُ وَحِكْمَتَهُ بِخَلْقِهِ اقْتَضَتْ مَنْعَ ذَلِكَ؛ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَ ثُمَّ عَايَنُوهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، وَجُعِلَ الرَّسُولُ بَشَرًا لِيُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ مَلَكًا فَإِمَّا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ أَوْ يَجْعَلَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْبَشَرِ، وَالْأَوَّلُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّلَقِّي عَنْهُ، وَالثَّانِي لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، إِذَا كَانُوا يَقُولُونَ هُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ إِخْبَارُهُ عَنِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 22‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا‏}‏ ‏(‏النَّبَأِ‏:‏ 6‏)‏ الْآيَاتِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَكَمَا يَقْصِدُونَ الْبَسْطَ وَالِاسْتِيفَاءَ يَقْصِدُونَ الْإِجْمَالَ وَالْإِيجَازَ، كَمَا قِيلَ‏:‏

يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً *** وَحْيُ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 21‏)‏‏.‏

الْأُسْلُوبُ الثَّانِي‏:‏ الْحَذْفُ تَعْرِيفُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيجَازِ

وَهُوَ لُغَةً‏:‏ الْإِسْقَاطُ، وَمِنْهُ‏:‏ حَذَفْتُ الشِّعْرَ، إِذَا أَخَذْتُ مِنْهُ‏.‏

وَاصْطِلَاحًا‏:‏ إِسْقَاطُ جُزْءِ الْكَلَامِ أَوْ كُلِّهِ لِدَلِيلٍ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ‏:‏ الْحَذْفُ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُسَمَّى اقْتِصَارًا، فَلَا تَحْرِيرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلْتَبِسُ بِهِ الْإِضْمَارُ وَالْإِيجَازُ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ شَرْطَ الْحَذْفِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَذْفِ ثَمَّ مُقَدَّرٌ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏)‏ بِخِلَافِ الْإِيجَازِ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْجَامِعِ لِلْمَعَانِي الْجَمَّةِ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ أَنَّ شَرْطَ الْمُضْمَرِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُقَدَّرِ فِي اللَّفْظِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 31‏)‏ أَيْ‏:‏ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، ‏{‏انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 171‏)‏ أَيِ‏:‏ ائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ، وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَذْفِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِضْمَارِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُقَدَّرِ بَابُ الِاشْتِقَاقِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَضْمَرْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ، قَالَ‏:‏

سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ***

وَأَمَّا الْحَذْفُ؛ فَمِنْ حَذَفْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالطَّرْحِ، بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ، وَلِهَذَا قَالُوا‏:‏ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ تَنْصُبُ ظَاهِرَةً وَمُضْمَرَةً‏.‏

وَرَدَّ ابْنُ مَيْمُونٍ قَوْلَ النُّحَاةِ‏:‏ إِنَّ الْفَاعِلَ يُحْذَفُ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ‏:‏ الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ يُضْمَرُ وَلَا يُحْذَفُ؛ لِأَنَّهُ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جِنِّي‏:‏ فِي ‏"‏ خَاطِرِيَّاتِهِ ‏"‏ مِنَ اتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ أَنَّكَ تُضْمِرُهُ فِي لَفْظٍ إِذَا عَرَفْتَهُ؛ نَحْوَ‏:‏ قُمْ، وَلَا تَحْذِفَهُ كَحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِسَائِيُّ فِي ‏"‏ ضَرَبَنِي، وَضَرَبْتُ قَوْمَكَ ‏"‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي أَنَّ الْحَذْفَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَشْهُورِ‏]‏

الْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَذْفَ مَجَازٌ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ‏"‏ التَّلْخِيصِ ‏"‏ عَنْ بَعْضِهِمْ‏:‏ أَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، إِذْ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْحَذْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ‏:‏ وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عَيْنُ الْمَجَازِ أَوْ مُعْظَمُهُ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مَجَازًا‏.‏

انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الزَّنْجَانِيُّ فِي ‏"‏ الْمِعْيَارِ ‏"‏‏:‏ إِنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ بِسَبَبِهِ حُكْمٌ؛ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ حُكْمٌ كَقَوْلِكَ‏:‏ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو، بِحَذْفِ الْخَبَرِ؛ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَالْمَحْذُوفُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِهِ- وَهُوَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ- فَالْحَذْفُ كَذَلِكَ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي أَوْجُهِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَذْفِ‏]‏

وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي فَرْعَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى عَدَمِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ قِلَّةِ الْمَحْذُوفِ وَكَثْرَتِهِ؛ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى قِلَّتِهِ أَوْلَى‏.‏

وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْحَذْفِ مِنْ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فِي فَائِدَتِهِ، وَفِي أَسْبَابِهِ، ثُمَّ فِي أَدِلَّتِهِ، ثُمَّ فِي شُرُوطِهِ ثُمَّ فِي أَقْسَامِهِ‏.‏

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏:‏ فِي فَوَائِدِهِ

الْحَذْفُ‏:‏ فَمِنْهَا التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، لِذَهَابِ الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَتَشَوُّفِهِ إِلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَرْجِعُ قَاصِرًا عَنْ إِدْرَاكِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ شَأْنُهُ، وَيَعْلُو فِي النَّفْسِ مَكَانُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ إِذَا ظَهَرَ فِي اللَّفْظِ زَالَ مَا كَانَ يَخْتَلِجُ فِي الْوَهْمِ مِنَ الْمُرَادِ، وَخَلَصَ لِلْمَذْكُورِ‏.‏

وَمِنْهَا زِيَادَةُ لَذَّةٍ بِسَبَبِ اسْتِنْبَاطِ الذِّهْنِ لِلْمَحْذُوفِ، وَكُلَّمَا كَانَ الشُّعُورُ بِالْمَحْذُوفِ أَعْسَرَ كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهِ أَشَدَّ وَأَحْسَنَ‏.‏

وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَحْذُوفِ، كَمَا تَقُولُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ‏.‏

وَمِنْهَا طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ‏.‏

وَمِنْهَا التَّشْجِيعُ عَلَى الْكَلَامِ؛ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي ‏"‏ شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ مَوْقِعُهُ فِي النَّفْسِ فِي مَوْقِعِهِ عَلَى الذِّكْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الصِّنَاعَتَيْنِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ‏:‏ مَا مِنَ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ‏:‏

إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحَةٍ *** وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحِ

الثَّانِي‏:‏ فِي أَسْبَابِهِ

الْحَذْفُ‏:‏ فَمِنْهَا‏:‏ مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، نَحْوَ‏:‏ الْهِلَالُ وَاللَّهِ، أَيْ‏:‏ هَذَا؛ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَرِينَةِ شَهَادَةِ الْحَالِ، إِذْ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ‏.‏

وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ، بِالْمَحْذُوفِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ؛ نَحْوَ‏:‏ إِيَّاكَ وَالشَّرَّ، وَالطَّرِيقَ الطَّرِيقَ، وَاللَّهَ اللَّهَ، وَبَابُ الْإِغْرَاءِ هُوَ لُزُومُ أَمْرٍ يُحْمَدُ بِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏(‏الشَّمْسِ‏:‏ 13‏)‏ عَلَى التَّحْذِيرِ؛ أَيِ‏:‏ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَ ‏"‏ سُقْيَاهَا ‏"‏ إِغْرَاءً بِتَقْدِيرِ الْزَمُوا نَاقَةَ اللَّهِ‏.‏

وَمِنْهَا التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ؛ قَالَ حَازِمٌ فِي ‏"‏ مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ ‏"‏‏:‏ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ مَا لَمْ يُشْكِلْ بِهِ الْمَعْنَى؛ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ فَيَحْذِفُ وَيَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا عَلَى الْحَالِ، قَالَ‏:‏ وَبِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ عَلَى النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 73‏)‏ فَحَذَفَ الْجَوَابَ؛ إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى، فَجَعَلَ الْحَذْفَ دَلِيلًا عَلَى ضِيقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ، وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَأْنُهُ، وَلَا يُبْلَغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهُ مَا هُنَالِكَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 78‏)‏ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْمُتَحَمِّلَةِ- مَعَ قِلَّتِهَا- لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ التَّخْفِيفُ؛ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي كَلَامِهِمْ، كَمَا فِي حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي نَحْوِ‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 29‏)‏ وَغَيْرُهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ‏:‏ الْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ لَا أَدْرِ؛ فَيَحْذِفُونَ الْيَاءَ، وَالْوَجْهُ ‏"‏ لَا أَدْرِي ‏"‏؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ، وَتَقُولُ‏:‏ ‏"‏ لَمْ أُبَلْ ‏"‏ فَيَحْذِفُونَ الْأَلِفَ، وَالْوَجْهُ ‏"‏ لَمْ أُبَالِ ‏"‏ وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ لَمْ يَكْ ‏"‏ فَيَحْذِفُونَ النُّونَ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُونَهُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ حَذْفُ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَأَثَرُهَا بَاقٍ، نَحْوَ ‏"‏ الضَّارِبَا زَيْدًا ‏"‏ وَ ‏"‏ الضَّارِبُو زَيْدًا ‏"‏ وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةَ‏)‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 35‏)‏ كَأَنَّ النُّونَ ثَابِتَةٌ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِاسْتِطَالَةِ الْمَوْصُولِ فِي الصِّلَةِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 4‏)‏ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ‏.‏

وَيُحْكَى عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْمُؤَرَّجَ السَّدُوسِيَّ سَأَلَهُ فَقَالَ‏:‏ لَا أُجِيبُكَ حَتَّى تَنَامَ عَلَى بَابِي لَيْلَةً، فَفَعَلَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفَهُ، وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ، نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 28‏)‏ الْأَصْلُ ‏"‏ بَغِيَّةٌ ‏"‏ فَلَمَّا حُوِّلَ وَنُقِلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ‏.‏

انْتَهَى‏.‏

وَمِنْهَا رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏(‏الضُّحَى‏:‏ 3‏)‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 4‏)‏ وَنَحْوِهِ‏.‏

وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ‏:‏ إِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْفَوَاصِلِ لِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوَافِي الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ يَاءٍ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يُحْذَفَ صِيَانَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 23‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 28‏)‏ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ‏:‏ قَبْلَ ذِكْرِ الرَّبِّ، أَيْ‏:‏ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ، وَاللَّهُ رَبُّكُمْ، وَاللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ؛ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامُهُ عَلَى السُّؤَالِ تَهَيُّبًا وَتَفْخِيمًا، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ؛ لِيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 18‏)‏ أَيْ‏:‏ هُمْ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 92‏)‏ ‏{‏فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 16‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ‏:‏ خَيْرٍ؛ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ‏:‏ كَيْفَ أَصْبَحْتَ‏؟‏ فَحَذَفَ الْجَارَّ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ‏:‏ ‏(‏تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ‏)‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 1‏)‏ لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكْرِيرِ الْجَارِّ، فَقَامَتِ الشُّهْرَةُ مَقَامَ الذِّكْرِ‏.‏

وَكَذَا قَالَ الْفَارِسِيُّ مُتَخَلِّصًا مِنْ عَدَمِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ‏:‏ إِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْجَارِّ الْمُقَدَّرِ، أَيْ‏:‏ وَ ‏"‏ بِالْأَرْحَامِ ‏"‏ وَإِنَّمَا حُذِفَتِ اسْتِغْنَاءً بِهِ فِي الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ هَذَا الْمُقَدَّرُ يُحِيلُ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مِثْلِهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ إِعَادَةُ الْجَارِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَطْفِ؛ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ فِي أَدِلَّتِهِ

الْحَذْفُ‏:‏ وَلَمَّا كَانَ الْحَذْفُ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ دَلِيلِهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ مُطْلَقٍ، وَتَارَةً عَلَى مَحْذُوفٍ مُعَيَّنٍ‏.‏

فَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ حَيْثُ تَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏)‏ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا تَكَلُّمُ الْأَمْكِنَةِ إِلَّا مُعْجِزَةً‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 115‏)‏ فَإِنَّ الذَّاتَ لَا تَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ شَرْعًا، إِنَّمَا هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الذَّوَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ التَّنَاوُلُ؛ وَلَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ وَأُقِيمَتِ الْمَيْتَةُ مَقَامَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ أُنِّثَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 3‏)‏ وَقَوْلُ صَاحِبِ ‏"‏ التَّلْخِيصِ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ ‏"‏ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ، فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِمَا؛ أَيْ‏:‏ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّعْيِينِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ‏:‏ أَمْرُهُ أَوْ عَذَابُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ، وَلِاسْتِحَالَةِ مَجِيءِ الْبَارِئِ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَدَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ الْأَمْرُ وَنَحْوُهُ، وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَمْثِيلٌ؛ مَثَّلَتْ حَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 22‏)‏ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ‏:‏ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْسُدْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ، فَعَدَمُ الْفَسَادِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بُلُوغًا لَهَا‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ، وَتَدُلَّ عَادَةُ النَّاسِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 32‏)‏ فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ ظَرْفًا لِلَوْمِهِنَّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ؛ فَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ حُبَّهُ بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏شَغَفَهَا حُبًّا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 30‏)‏ أَوْ مُرَاوَدَتَهُ؛ بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏تُرَاوِدُ فَتَاهَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 30‏)‏ وَلَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يُعَيِّنُ وَاحِدًا مِنْهَا، بَلِ الْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الثَّانِي، فَإِنَّ الْحُبَّ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْهَرُهُ وَيَغْلِبُهُ، وَإِنَّمَا اللَّوْمُ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ اخْتِيَارٌ، وَهُوَ الْمُرَاوَدَةُ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهَا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ تَدُلَّ الْعَادَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 167‏)‏ أَيْ‏:‏ مَكَانَ قِتَالٍ، وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ، وَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا‏:‏ لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَالِ؛ فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ ‏"‏ مَكَانَ قِتَالٍ ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ تَعْيِينَ الْمَحْذُوفِ هُنَا مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ لَا الْعَادَةِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحَذْفِ وَالشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 1‏)‏ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَدَلَّ الشُّرُوعُ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ فِي مَبْدَئِهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِ، وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ، فَفِي الْقِرَاءَةِ‏:‏ أَقْرَأُ، وَفِي الْأَكْلِ‏:‏ آكُلُ، وَنَحْوَهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّرُ الْفِعْلُ أَوْ الِاسْمُ‏؟‏ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يُقَدَّرُ عَامٌّ كَالِابْتِدَاءِ أَوْ خَاصٌّ كَمَا ذَكَرْنَا‏؟‏‏.‏

وَمِنْهَا اللُّغَةُ كَضَرَبْتُ، فَإِنَّ اللُّغَةَ قَاضِيَةٌ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ؛ نَعَمْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَدَثِ لَا تَعْيِينُهُ، وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ تَقَدُّمُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَمَا فِي سِيَاقِهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 179‏)‏ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏ وَفِي مَوْضِعٍ‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏)‏ وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 35‏)‏ أَيْ‏:‏ هَذَا، بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 52‏)‏ وَنَظَائِرِهِ‏.‏

وَمِنْهَا اعْتِضَادُهُ بِسَبَبِ النُّزُولِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ‏:‏ أَيْ‏:‏ قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ، يَعْنِي النَّوْمَ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إِنَّمَا يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ‏.‏

وَاحْتُجَّ لِزَيْدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِقْدَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِقْدَهَا، فَأَخَّرُوا الرَّحِيلَ إِلَى أَنْ أَضَاءَ الصُّبْحُ، فَطَلَبُوا الْمَاءَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ‏.‏

وَبِمَا رُجِّحَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ الْأَوْلَى أَنْ يَحْمِلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ‏}‏ مَعْنًى غَيْرَ الْحَدَثِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلْحَدَثِ وَلِسَبَبِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ بَلْ سَبَبٌ لِلْحَدَثِ‏.‏

الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏:‏ فِي شُرُوطِهِ

الْحَذْفُ‏:‏ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ فِي الْمَذْكُورِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ؛ إِمَّا مِنْ لَفْظِهِ، أَوْ مِنْ سِيَاقِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ، وَلِئَلَّا يَصِيرَ الْكَلَامُ لُغْزًا فَيُهَجَّنُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ‏:‏ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا أُبْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُلْقِيَ‏.‏

وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ مَقَالِيَّةٌ وَحَالِيَّةٌ‏:‏ فَالْمَقَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنْ إِعْرَابِ اللَّفْظِ؛ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَاصِبٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا؛ نَحْوَ‏:‏ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا، أَيْ‏:‏ وُجِدْتَ أَهْلًا، وَسَلَكْتَ سَهْلًا، وَصَادَفْتَ رَحْبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 1‏)‏ وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ احْمِدُوا الْحَمْدَ، وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 138‏)‏ ‏{‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 78‏)‏‏.‏

وَالْحَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَحْذُوفٍ، وَهَذَا يَكُونُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ النَّظْمِ الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ عُمُومِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ فُلَانٌ يَحُلُّ وَيَرْبِطُ؛ أَيْ‏:‏ يَحُلُّ الْأُمُورَ وَيَرْبِطُهَا، أَيْ‏:‏ ذُو تَصَرُّفٍ‏.‏

وَقَدْ تَدُلُّ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ عَلَى التَّقْدِيرِ؛ كَقَوْلِهِمْ فِي‏:‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 1‏)‏ إِنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ لَأَنَا أُقْسِمُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَالِ لَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 85‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ لَا تَفْتَأُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ مُثْبَتًا لَدَخَلَتِ اللَّامُ وَالنُّونُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ هُنَا أَدِلَّةٌ يَتَعَدَّدُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ تَقْدِيرَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وَالْمَعْنَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ‏.‏

ثُمَّ كَأَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ‏:‏ لَا، فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

ثَانِيهَا‏:‏ تَقْدِيرُ‏:‏ ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٌ، فَحُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

ثَالِثُهَا‏:‏ تَقْدِيرُ‏:‏ ‏"‏ كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ ‏"‏ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 69‏)‏ أَيْ‏:‏ سَلَّمْنَا سَلَامًا، أَوْ أَحَدَ رُكْنَيْهَا نَحْوَ‏:‏ ‏{‏قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 25‏)‏ أَيْ‏:‏ ‏"‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏"‏ فَحُذِفَ خَبَرُ الْأُولَى وَمُبْتَدَأُ الثَّانِيَةِ‏.‏

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفَ فَضْلَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لِحَذْفِهِ دَلِيلٌ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَكُونَ فِي حَذْفِهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظِ، كَمَا فِي حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ وَنَحْوِهِ‏.‏

وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي حَذْفِ الْجَارِّ أَيْضًا أَمْنَ اللَّبْسِ وَمُنِعَ الْحَذْفُ فِي نَحْوِ‏:‏ رَغِبْتُ فِي أَنْ تَفْعَلَ، أَوْ‏:‏ عَنْ أَنْ تَفْعَلَ؛ لِإِشْكَالِ الْمُرَادِ بَعْدَ الْحَذْفِ‏.‏

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 127‏)‏ فَحَذَفَ الْحَرْفَ‏.‏

وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّسَاءَ يَشْتَمِلْنَ عَلَى وَصْفَيْنِ‏:‏ وَصْفُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَعَنْهُنَّ، فَحُذِفَ لِلتَّعْمِيمِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الْمَحْذُوفِ، وَأُنْكِرَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 3- 4‏)‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ بَلَى حَسِبَنَا قَادِرِينَ، وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالْمَحْذُوفُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ؛ إِذِ التَّرَدُّدُ فِي الْإِعَادَةِ كُفْرٌ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ‏.‏

وَيُجَابُ بِأَنَّ الْحِسَابَ الْمُقَدَّرَ بِمَعْنَى الْجَزْمِ وَالِاعْتِقَادِ، لَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَتَقْدِيرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْمَلْفُوظَ‏.‏

وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ذِكْرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ‏.‏

مِنْهَا- وَهُوَ أَقْوَاهَا-‏:‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 158‏)‏ أَيْ‏:‏ أَمْرُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 133‏)‏ أَيْ‏:‏ كَعَرْضِ؛ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ‏.‏

وَفِيهِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَرْضُ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالطُّولِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 54‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا أَرَادَ التَّعْظِيمَ وَالسِّعَةَ لِأَحَقِّيَّةِ الْعَرْضِ، كَقَوْلِهِ‏:‏

كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ *** عَلَى الْخَائِفِ الْمَظْلُومِ كِفَّةُ حَابِلِ

وَمِنْهَا‏:‏ أَلَّا يَكُونَ الْفِعْلُ طَالِبًا لَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ امْتَنَعَ حَذْفُهُ كَالْفَاعِلِ، وَمَفْعُولِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَاسْمِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْذَفْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْغَرَضِ‏.‏

وَمِنْهَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي‏:‏ وَمِنْ حَقِّ الْحَذْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ أَضْعَفُ مِنْ قَلْبِهِ وَوَسَطِهِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 41‏)‏ وَقَالَ الطَّائِيُّ الْكَبِيرُ‏:‏

كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَمْنُوعَ فَاسْتَلَبَتْ *** مَا حَوْلَهَا الْخَيْلُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

فَكَأَنَّ الطَّرَفَيْنِ سِيَاجٌ لِلْوَسَطِ وَمَبْذُولَانِ لِلْعَوَارِضِ دُونَهُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْإِعْلَالَ عِنْدَ التَّصْرِيفِيِّينَ بِالْحَذْفِ مِنْهَا، فَحَذَفُوا الْفَاءَ فِي الْمَصَادِرِ مِنْ بَابِ وَعَدَ، نَحْوَ الْعِدَةِ وَالزِّنَةِ وَالْهِبَةِ، وَاللَّامَ فِي نَحْوِ الْيَدِ وَالدَّمِ وَالْفَمِ وَالْأَبِ وَالْأَخِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ الْحَذْفَ فِي الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ لُطْفُ هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

تنبيهاتٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ قَدْ تُوجِبُ صِنَاعَةُ النَّحْوِ التَّقْدِيرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ‏"‏؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ النُّحَاةُ‏:‏ بِـ ‏"‏ مَوْجُودٌ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ لَنَا ‏"‏‏.‏

وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَقَالَ‏:‏ هَذَا كَلَامٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَتَقْدِيرُهُمْ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً، فَإِنَّهَا إِذَا انْتَفَتْ مُطْلَقَةً كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْقَيْدِ، وَإِذَا انْتَفَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ‏.‏

وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ ‏"‏ فِي الْوُجُودِ ‏"‏ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ كُلِّ إِلَهٍ غَيْرَ اللَّهِ قَطْعًا، فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا كَلَامَ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ لِلْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِاسْتِحَالَةِ مُبْتَدَأٍ بِلَا خَبَرٍ، ظَاهِرًا أَوْ مُقَدَّرًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ الْقَوَاعِدَ حَقَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا، وَتَقْدِيرُهُمْ هُنَا‏:‏ أَوْ غَيْرُهُ لِيَرَوْا صُورَةَ التَّرْكِيبِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ مِثَالًا لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَهُمْ تَقْدِيرَانِ‏:‏ إِعْرَابِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ، وَمَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ‏.‏

وَمِنَ الْمُنْكَرِ فِي هَذَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الطِّرَاوَةِ‏:‏ إِنَّ الْخَبَرَ فِي هَذَا ‏"‏ إِلَّا اللَّهُ ‏"‏ وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ مَعْرِفَةً‏.‏

الثَّانِي‏:‏ اعْتَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي الْحَذْفِ التَّدْرِيجَ حَيْثُ أَمْكَنَ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 48‏)‏ إِنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ ‏"‏ يَوْمَ لَا تَجْزِي فِيهِ ‏"‏ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَصَارَ ‏"‏ تَجْزِيهِ ‏"‏ ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الضَّمِيرِ فَصَارَ ‏"‏ تَجْزِي ‏"‏‏.‏

وَهَذَا مُلَاطَفَةٌ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حُذِفَ فِيهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي ‏"‏ الْمُحْتَسَبِ ‏"‏‏:‏ وَقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ أَوَثَقُ فِي النَّفْسِ وَآنَسُ مِنْ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفَانِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ‏:‏ ‏"‏ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ ‏"‏ وَدَلَّ ‏"‏ انْفَجَرَتْ ‏"‏ عَلَى الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنَ الِانْفِجَارِ أَنَّهُ قَدْ ضُرِبَ‏.‏

وَكَذَا ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 63‏)‏ إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَحْصُلَ الِانْفِجَارُ وَالِانْفِلَاقُ دُونَ ضَرْبٍ‏.‏

وَابْنُ عُصْفُورٍ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا‏:‏ إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ الْمَذْكُورَ مَعَ الْمَعْطُوفِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنَ الْمَعْطُوفِ، فَالْفَاءُ فِي ‏"‏ انْفَلَقَ ‏"‏ هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ ‏"‏ ضَرْبٌ ‏"‏ فَذُكِرَتْ فَاؤُهُ، وَحُذِفَ فِعْلُهَا، وَذُكِرَ فِعْلُ ‏"‏ انْفَلَقَ ‏"‏ وَحُذِفَتْ فَاؤُهُ لِيَدُلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَحْذُوفِ؛ وَهُوَ تَحَيُّلٌ غَرِيبٌ‏.‏

الْخَامِسُ فِي أَقْسَامِهِ

الْأَوَّلُ‏:‏ الِاقْتِطَاعُ

وَهُوَ ذِكْرُ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ وَإِسْقَاطُ الْبَاقِي، كَقَوْلِهِ‏:‏

دَرَسَ الْمُنَا بِمَتَالِعٍ فَأَبَانِ ***

أَيِ‏:‏ الْمَنَازِلُ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَثَلِ السَّائِرِ ‏"‏ وُرُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ‏.‏

وَقَدْ جَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ فَوَاتِحَ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ‏"‏ الم ‏"‏ مَعْنَاهُ‏:‏ ‏"‏ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى ‏"‏ وَ ‏"‏ المص ‏"‏‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأُفَصِّلُ، وَكَذَا الْبَاقِي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ إِنَّ الْبَاءَ هُنَا أَوَّلُ كَلِمَةِ ‏"‏ بَعْضَ ‏"‏ ثُمَّ حُذِفَ الْبَاقِي، كَقَوْلِهِ‏:‏

قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ ***

أَيْ‏:‏ وَقَفْتُ، وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ كَفَى بِالسَّيْفِ شَا أَيْ‏:‏ شَاهِدًا‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ مَ اللَّهُ ‏"‏ فِي الْقَسَمِ‏:‏ إِنَّهَا ‏"‏ ايْمَنُ ‏"‏ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ، حُذِفَتْ نُونُهَا‏.‏

وَمِنْ هَذَا التَّرْخِيمُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ‏:‏ ‏(‏يَا مَالِ‏)‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 77‏)‏ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَلَمَّا سَمِعَهَا بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ‏:‏ مَا أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ‏.‏

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ عَجَزُوا عَنْ إِتْمَامِ الْكَلِمَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الِاكْتِفَاءُ

مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمَقَامُ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ وَارْتِبَاطٌ؛ فَيُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَيُخَصُّ بِالِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ غَالِبًا؛ فَإِنَّ الِارْتِبَاطَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏ وُجُودِيٌّ، وَلُزُومِيٌّ، وَخَبَرِيٌّ، وَجَوَابِيٌّ،

وَعَطْفِيٌّ‏.‏

ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ اتُّفِقَ؛ بَلْ لِأَنَّ فِيهِ نُكْتَةً تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ‏.‏

وَالْمَشْهُورُ فِي مِثَالِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 81‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْبَرْدَ، هَكَذَا قَدَّرُوهُ، وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ سُؤَالَ الْحِكْمَةِ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرِّ بِالذِّكْرِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ، وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ، وَالْوِقَايَةُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرِّ أَهَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْبَرْدِ عِنْدَهُمْ‏.‏

وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ فَإِنَّ الْبَرْدَ ذُكِرَ الِامْتِنَانُ بِوِقَايَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 80‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 81‏)‏ وَقَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْوِقَايَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 81‏)‏ فَإِنَّ هَذِهِ وِقَايَةُ الْحَرِّ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 81‏)‏ فَهَذِهِ وِقَايَةُ الْبَرْدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسَاكِنِ وَهَذِهِ إِلَى الْمَلَابِسِ، ‏[‏نَعَمِ اعْمَلُوا فِي الْآيَةِ‏]‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 81‏)‏ وَلَمْ يَقُلِ السَّهْلُ وَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ‏.‏

وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 13‏)‏ فَإِنَّهُ قِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ‏:‏ ‏"‏ وَمَا تَحَرَّكَ ‏"‏ وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السُّكُونِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ الْحَالَيْنِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ، وَلِأَنَّ السَّاكِنَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُتَحَرِّكِ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ يَصِيرُ إِلَى السُّكُونِ، وَلِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْحَرَكَةُ طَارِئَةٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِيَدِكَ الْخَيْرُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 26‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ وَالشَّرُّ ‏"‏ إِذْ مَصَادِرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبُ الْعِبَادِ وَمَرْغُوبُهُمْ إِلَيْهِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُجُودًا فِي الْعَالَمِ مِنَ الشَّرِّ؛ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ فِي بَابِ الْأَدَبِ أَلَّا يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَرَدَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ الرُّومِ وَفَارِسَ، وَوَعَدَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْخَيْرِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ، وَآثَرَ الْغَيْبَ لِأَنَّهُ أَبْدَعُ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ‏}‏ ‏(‏الْجِنِّ‏:‏ 25- 26‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالشَّهَادَةُ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 20‏)‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ، وَطَوَى الْبَاقِي‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 67‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْبَحْرِ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 5‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْمَغَارِبِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 273‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 113‏)‏ أَيْ‏:‏ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 55‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 2‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْكَافِرِينَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلنَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 185‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 41‏)‏، قِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ وَآخِرَ كَافِرٍ بِهِ، فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ قُوَّةِ الْكَلَامِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ الْكُفْرِ وَآخِرَهُ سَوَاءٌ، وَخُصَّتِ الْأَوْلَوِيَّةُ بِالذِّكْرِ لِقُبْحِهَا بِالِابْتِدَاءِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 19‏)‏ أَيْ‏:‏ وَيَبْسُطْنَ، قَالَهُ الْفَارِسِيُّ‏.‏

وَحَكَى فِي ‏"‏ التَّذْكِرَةِ ‏"‏ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 15‏)‏ أَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ ‏"‏ أَكَادُ أُظْهِرُهَا أُخْفِيهَا لِتُجْزَى ‏"‏ فَحَذَفَ ‏"‏ أُظْهِرُهَا ‏"‏ لِدَلَالَةِ أُخْفِيهَا عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَعِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى ‏"‏ أُزِيلُ خَفَاءَهَا ‏"‏ فَلَا حَذْفَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 285‏)‏ أَيْ‏:‏ بَيْنَ أَحَدٍ وَأَحَدٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 10‏)‏ أَيْ‏:‏ وَمَنْ أَنْفَقَ بَعْدَهُ وَقَاتَلَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَطْلُبُ اثْنَيْنِ؛ وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 10‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 172‏)‏ أَيْ‏:‏ وَمَنْ لَا يَسْتَنْكِفُ وَلَا يَسْتَكْبِرُ؛ بِدَلِيلِ التَّقْسِيمِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 173‏)‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 173‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 17‏)‏ فَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ عَنِ الْجِهَتَيْنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 14‏)‏ الِاكْتِفَاءُ بِجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَمْ تُعْبِدْنِي‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 176‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَا وَالِدَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ الْأَبِ، فَإِنَّ الْأَبَ يُسْقِطُهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 67‏)‏ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِسْمَ الْآخَرَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ إِذْ وَضْعُهَا لِتَفْصِيلِ كَلَامٍ مُجْمَلٍ، وَأَقَلُّ أَقْسَامِهَا قِسْمَانِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُؤْمِنُ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَالثَّانِي فِي آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا اللَّهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏)‏ هَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ‏:‏ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 59‏)‏ أَيْ‏:‏ وَفِعْلًا غَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِشَيْئَيْنِ‏:‏ بِأَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، وَبِأَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ؛ فَبَدَّلُوا الْقَوْلَ فِي ‏"‏ حِنْطَةٍ ‏"‏ ‏"‏ حِطَّةٌ ‏"‏، وَبَدَّلُوا الْفِعْلَ بِأَنْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا سَاجِدِينَ، وَالْمَعْنَى‏:‏ إِرَادَتُنَا حِطَّةٌ، أَيْ‏:‏ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 19- 20- 21‏)‏ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ‏:‏ دُخُولُ ‏"‏ لَا ‏"‏ عَلَى نِيَّةِ التَّكْرَارِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ، وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي؛ وَدَلَّ بِمَذْكُورِ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَيْسَ لِلْفَجْرِ خَيْطٌ أَسْوَدُ، إِنَّمَا الْأَسْوَدُ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏

فَأُجِيبَ‏:‏ إِنَّ ‏{‏مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ؛ لَكِنْ حُذِفَ ‏"‏ مِنَ اللَّيْلِ ‏"‏ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِوُقُوعِ الْفَجْرِ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ؛ وَلَوْ وَقَعَ مِنَ الْفَجْرِ فِي مَوْضِعِهِ مُتَّصِلًا بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ لَضَعُفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَحْذُوفِ؛ وَهُوَ ‏"‏ مِنَ اللَّيْلِ ‏"‏ فَحُذِفَ ‏"‏ مِنَ اللَّيْلِ ‏"‏ لِلِاخْتِصَارِ، وَأُخِّرَ ‏"‏ مِنَ الْفَجْرَ ‏"‏ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ مِنْ هَذَا قِسْمٌ يُسَمَّى الضَّمِيرُ وَالتَّمْثِيلُ

الْمُرَادُ بِهِمَا‏:‏ وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ أَنْ يُضْمِرَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُجَاوِرِ بِهِ لِبَيَانِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ؛ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ‏:‏ النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ أَضْمَرَ ‏"‏ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ‏"‏‏.‏

وَيَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 22‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏، وَقَدْ شَهِدَ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ؛ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ؛ وَانْتَفَى عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ فَظٌّ غَلِيظُ الْقَلْبِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 23‏)‏ الْمَعْنَى‏:‏ لَوْ أَفْهَمْتُهُمْ لَمَا أَجْدَى فِيهِمُ التَّفْهِيمُ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبُوا الْقُوَّةَ الْفَاهِمَةَ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ الْفَهْمِ أَحَقُّ بِفَقْدِ الْقَبُولِ وَالْهِدَايَةِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْفِعْلِ لِشَيْئَيْنِ

وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَحَدِهِمَا؛ فَيُضْمَرُ لِلْآخَرِ فِعْلٌ يُنَاسِبُهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 9‏)‏ أَيْ‏:‏ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 12‏)‏ أَيْ‏:‏ وَشَمُّوا لَهَا زَفِيرًا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ‏}‏ وَالصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ؛ فَالتَّقْدِيرُ‏:‏ وَلَتُرِكَتْ صَلَوَاتٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ‏}‏، فَالْفَاكِهَةُ وَلَحْمُ الطَّيْرِ وَالْحُورُ الْعِينُ لَا تَطُوفُ، وَإِنَّمَا يُطَافُ بِهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ‏}‏، فَنَقَلَ ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ؛ أَيْ‏:‏ شُرَكَائِكُمْ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلُهَا لَرَضَعَهَا؛ أَيْ‏:‏ مَعَ فَصِيلِهَا‏.‏

وَقَالَ الْآخَرُونَ‏:‏ أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ؛ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ‏}‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلثَّانِي لِيَصِحَّ الْعِطْفُ هُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لِتَعَذُّرِ الْعَطْفِ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَتَضْمِينِ الْعَامِلِ مَعْنًى يَنْتَظِمُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَمِيعًا؛ فَيُقَدَّرُ آثَرُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ‏:‏ أَيُّهُمَا أَوْلَى‏؟‏ تَرْجِيحُ الْإِضْمَارِ، أَوِ التَّضْمِينِ‏؟‏ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ‏:‏ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي يَلِيهِ حَقِيقَةً كَانَ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنَ التَّضْمِينِ؛ نَحْوَ ‏"‏ يَجْدَعُ اللَّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ ‏"‏ أَيْ‏:‏ وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ، فَنِسْبَةُ الْجَدْعِ إِلَى الْأَنْفِ حَقِيقَةٌ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى مَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِضْمَارُ؛ كَقَوْلِهِمْ‏:‏

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ***

وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 35‏)‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ فِعْلَ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ لَا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى‏:‏ اسْكُنْ أَنْتَ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا؛ لِأَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا عَمِلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ اسْكُنْ زَوْجَكَ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 233‏)‏ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ مَوْلُودٌ ‏"‏ مَعْطُوفًا عَلَى ‏"‏ وَالِدَةٌ ‏"‏ لِأَجْلِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ، أَوْ لِلْأَمْرِ؛ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُقَدِّرَ مَرْفُوعًا بِمُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ؛ أَيْ‏:‏ وَلَا يُضَارُّ مَوْلُودٌ لَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالطَّيْرُ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 10‏)‏ قَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ ‏"‏ وَسَخَّرَنَا لَهُ الطَّيْرَ ‏"‏ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَضْلًا‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقِيلَ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي ‏(‏أَوِّبِي‏)‏ وَجَازَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَعَهُ‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ‏:‏ وَلِتُؤَوِّبَ مَعَهُ الطَّيْرُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَلَامُ شَيْئَيْنِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ ‏{‏فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 49‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَهَارُونَ ‏"‏؛ لِأَنَّ مُوسَى الْمَقْصُودُ الْمُتَحَمِّلُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ‏.‏

وَغَاصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ‏:‏ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْكَلَامَ فَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ وَهَارُونَ ‏"‏ وَلَكِنَّهُ نَكَلَ عَنْ خِطَابِ هَارُونَ تَوَقِّيًا لِفَصَاحَتِهِ، وَحِدَّةِ جَوَابِهِ، وَوَقْعِ خِطَابِهِ، إِذِ الْفَصَاحَةُ تُنَكِّلُ الْخَصْمَ عَنِ الْخَصْمِ لِلْجَدَلِ، وَتُنَكِّبُهُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ، ثُمَّ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏(‏الْجُمُعَةِ‏:‏ 11‏)‏، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرُهُ‏:‏ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا، أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ؛ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ‏.‏

وَيَبْقَى عَلَيْهِ سُؤَالٌ؛ وَهُوَ أَنَّهُ‏:‏ لِمَ أُوْثِرَ ذِكْرُ التِّجَارَةِ‏؟‏ وَهَلَّا أُوثِرَ اللَّهْوُ‏؟‏ وَجَوَابُهُ مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏:‏ إِنَّ التِّجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ انْفِضَاضِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ تُشْغِلُ التِّجَارَةُ عَنِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُشْغِلُهُ اللَّهْوُ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعَ‏:‏ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْفِضَّةِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ أَكْثَرُ وُجُودًا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ، فَيَكُونُ كَنْزُهَا أَكْثَرَ، وَقِيلَ‏:‏ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَكْنُوزَ دَنَانِيرٌ وَدَرَاهِمٌ وَأَمْوَالٌ‏.‏

وَنَظِيرُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 9‏)‏؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ‏:‏ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ شَيْئَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَكْتَفِي بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ عَنِ الْآخَرِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، كَقَوْلِ حَسَّانِ‏:‏

إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْ *** وَدَ وَمَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا

وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ يَعَاصَا ‏"‏‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 9‏)‏ وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ ‏"‏ الْهَاءَاتِ ‏"‏ ضَمِيرَ لَمْ تَرَوْهَا رَاجِعًا إِلَى الْجُنُودِ‏.‏

وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ هُمُ الْمَلَائِكَةُ ‏"‏ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِمَا سَبَقَ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 62‏)‏ فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ أَحَقُّ ‏"‏ خَبَرٌ عَنْهُمَا، وَسَهُلَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِعَدَمِ إِفْرَادِ ‏"‏ أَحَقُّ ‏"‏ وَأَنَّ إِرْضَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِرْضَاءٌ لِرَسُولِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ أَحَقُّ ‏"‏ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ قَدْ يَقْصِدُونَ ذِكْرَ الشَّيْءِ فَيَذْكُرُونَ قَبْلَهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مِنْهُ، ثُمَّ يَعْطِفُونَهُ عَلَيْهِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ سَرَّنِي زَيْدٌ وَحُسْنُ حَالِهِ؛ وَالْمُرَادُ‏:‏ حُسْنُ حَالِهِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّةِ الِاخْتِصَاصِ بِذِكْرِ الْمَعْنَى، وَرَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 61‏)‏ وَلِهَذَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ، وَلَمْ يُثَنِّ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 20‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 45‏)‏، فَقِيلَ‏:‏ الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَقِيلَ‏:‏ أَعَادَهُ عَلَى الْمَعْنَى؛ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنَ ‏(‏اسْتَعِينُوا‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى عَلَى التَّثْنِيَةِ؛ وَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا‏}‏ وَهُوَ نَظِيرُ آيَةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَبَقَ‏.‏

وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَتَانِ، وَهُمَا‏:‏ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ، وَمُؤَنَّثَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِلْقُلُوبِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالتِّجَارَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِاللَّهْوِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَصْلًا وَاللَّهْوُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ ضُرِبَ بِالطَّبْلِ لِقُدُومِهِ، كَمَا جَاءَ فِي ‏"‏ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ‏"‏‏:‏ أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 112‏)‏ عَلَى الْإِثْمِ؛ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذْكِيرِ، فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أَيْ‏:‏ بِذَلِكَ الْقَوْلِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ الْحَذْفُ الْمُقَابَلِيُّ

وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْكَلَامِ مُتَقَابِلَانِ، فَيُحْذَفُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابَلَةً؛ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 35‏)‏ الْأَصْلُ‏:‏ فَإِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي، وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ‏.‏

فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏"‏ إِجْرَامِي ‏"‏ وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ ‏"‏ وَهُوَ الثَّالِثُ، كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ ‏"‏ وَهُوَ الثَّانِي، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 35‏)‏، وَهُوَ الرَّابِعُ، وَاكْتَفَى مِنْ كُلِّ مُتَنَاسِبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 5‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ إِنْ أُرْسِلَ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، فَأَتَوْا بِآيَةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 24‏)‏ تَقْدِيرُهُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ‏:‏ ‏"‏ وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ ‏"‏ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُطْلَقُ قَوْلِهِ‏:‏ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 222‏)‏ فَتَقْدِيرُهُ‏:‏ لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ؛ فَإِذَا طَهُرْنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ، وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ؛ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ كَنِسْبَةِ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعِ؛ وَيُحْذَفُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ قَاطِعَةٌ بِهَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ؛ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُعْتَضَدُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ إِلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالتَّطَهُّرِ جَمِيعًا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 12‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلُ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ ‏"‏ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ تَنَاسُبٌ بِالطِّبَاقِ؛ فَلِذَلِكَ بَقِيَ الْقَانُونُ فِيهِ، الَّذِي هُوَ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ، وَنِسْبَةُ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعِ، عَلَى حَالَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ؛ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ وَلَمْ يُجْعَلْ بِالنِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَبَيْنَ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَهِيَ نِسْبَةُ النَّظِيرِ، كَقَوْلِهِ‏:‏

وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ *** كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ

أَيْ‏:‏ هِزَّةٌ بَعْدَ انْتِفَاضَةٍ، كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ، ثُمَّ اهْتَزَّ‏.‏

كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ‏.‏

وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ وَقَالَ‏:‏ هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَوْ يَكُونُ لَكَانَ خُلْفًا، وَإِنَّمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدْخَالِهَا خُرُوجَهَا، وَ ‏"‏ يَخْرُجُ ‏"‏ مَجْزُومٌ عَلَى الْجَوَابِ، فَاحْتَاجَ أَنْ تُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا، وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا؛ لِأَنَّهُمَا نَظِيرُ مَا ثَبَتَ؛ لَكِنْ وَقَعَ فِي تَقْدِيرِ مَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ، لَكِنَّهُ قَدْ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيرًا بَعِيدًا، وَهُوَ‏:‏ ‏"‏ أَدْخِلْهَا تَدْخُلُ كَمَا هِيَ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ بَيْضَاءَ ‏"‏ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْفِعْلِ، فَإِذَا قِيلَ‏:‏ إِنْ جَاءَنِي زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ، فَهَذَا اللَّازِمُ بِالْوَضْعِ، وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ، وَالْإِكْرَامُ لَازِمٌ لِلْمَجِيءِ، بَلْ لِوَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ فَالْمَوْضُوعُ هُنَا أَنَّ الْإِدْخَالَ سَبَبٌ فِي خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إِلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ لَمْ أُرِدْ هَذَا؛ وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا حَتَّى تُخْرَجَ‏.‏

قِيلَ‏:‏ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مَعْنَى لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 102‏)‏، أَصْلُ الْكَلَامِ‏:‏ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا بِسَيِّئٍ، وَآخَرَ سَيِّئًا بِصَالِحٍ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ يَسْتَدْعِي مَخْلُوطًا وَمَخْلُوطًا بِهِ؛ أَيْ‏:‏ تَارَةً أَطَاعُوا وَخَلَطُوا الطَّاعَةَ بِكَبِيرَةٍ، وَتَارَةً عَصَوْا وَتَدَارَكُوا الْمَعْصِيَةَ بِالتَّوْبَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 123‏)‏ الْآيَةَ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّقْسِيمِ اللَّفْظِيِّ‏:‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَلَا خَوْفَ وَلَا حُزْنَ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَذَبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ؛ فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُخْرَى‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 171‏)‏ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي ‏"‏ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى ‏"‏‏:‏ لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ وَإِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى‏:‏ ‏"‏ وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً؛ وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى سِعَةِ الْكَلَامِ وَالْإِيجَازِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْنَى‏.‏

انْتَهَى‏.‏

وَالَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّاعِقَ بِمَعْنَى الدَّاعِي؛ وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ؛ لِجَوَازِ أَلَّا يُرَادَ بِهِ الدَّاعِي؛ بَلِ النَّاعِقُ مِنَ الْحَيَوَانِ شَبَّهَهُمْ فِي تَأَلُّفِهِمْ وَتَأَتِّيهِمْ بِمَا يَنْعِقُ مِنَ الْغَنَمِ بِصَاحِبِهِ؛ مِنْ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْهَمُ مَا يُرِيدُهُ، فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِلَّا الِاكْتِفَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ بِالثَّالِثِ؛ لِنِسْبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالَّذِي يَنْعِقُ- وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُشَبَّهُ بِهِ- عَنِ الْمُشَبَّهِ، وَهُوَ الْكِنَايَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَمَثَلُكَ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَأَقْرَبُ إِلَى هَذَا التَّشْبِيهُ الْمُرَكَّبُ وَالْمُقَابَلَةُ، وَهُوَ الَّذِي غَلِطَ مَنْ وَضَعَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الِاكْتِفَاءِ لِلِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ عَلَى مَا سَلَفَ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الصَّفَّارُ‏:‏ هَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ- مِنْ أَنَّهُ حَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، وَمِنَ الثَّانِي الْمَعْطُوفَ- ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَذْفًا كَثِيرًا مَعَ إِبْقَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفٌ، وَالْأَصْلُ ‏"‏ مَثَلُكَ وَمَثَلُهُمْ ‏"‏، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْأَصْلَ ‏"‏ وَمَثَلُكُ وَمَثَلُهُمْ ‏"‏ ثُمَّ حَذَفَ ‏"‏ مَثَلُكَ ‏"‏ وَالْوَاوَ الَّتِي عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا، وَبَقِيَتِ الْوَاوُ الْأَوْلَى؛ وَيُزْعَمُ أَنَّ الْكَلَامَ رُبِطَ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ؛ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ‏.‏

وَفِيهِ مَا تَرَى‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْحَجَّاجِ‏:‏ عِنْدِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الْآيَةِ، وَالْقَصْدُ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، فَهُوَ تَمْثِيلُ دَاعٍ بِدَاعٍ مُحَقَّقٌ لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا دَاعُونَ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ مَدْعُوُّونَ‏.‏

وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 22‏)‏ فَإِنَّ فِيهِ جُمْلَتَيْنِ؛ حُذِفَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِنِصْفِ الْأُخْرَى، وَأَصْلُ الْكَلَامِ‏:‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّ أَصْلَهُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا بُدَّ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَهَاهُنَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ‏:‏ هَلْ هَذَا أَهْدَى مِنْ ذَلِكَ أَمْ ذَاكَ أَهْدَى مِنْ هَذَا‏؟‏ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا نِصْفُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ وَنِصْفُ الْأُخْرَى، وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ هَذِهِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ، وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ تِلْكَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ، فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْفَصَاحَةِ، ثُمَّ تُرِكَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ؛ وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِهَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ، وَأَيُّهُمَا هُوَ الْأَهْدَى، لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْآيَةِ أَصْلًا؛ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقُولُ‏:‏ الَّذِي يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ‏.‏

وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 17‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 9‏)‏ فَائِدَةٌ

قَدْ يُحْذَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَقَدْ يُعْكَسُ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ الْأَمْرَيْنِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏)‏ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ ‏"‏ مَلَائِكَتَهُ ‏"‏، أَيْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي، فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَيْهِ‏.‏

وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 39‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا يَشَاءُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ‏:‏ بَرِيءٌ أَيْضًا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 48‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ‏:‏ كَذَلِكَ‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 38‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ وَأَبْصِرْ بِهِمْ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ الْفَضْلَةِ؛ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْفَاعِلِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ فَلَا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 38‏)‏ وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، فَحَذَفَ ‏"‏ خَلَقَهُنَّ ‏"‏ لِقَرِينَةٍ تَقَدَّمَتْ فِي السُّؤَالِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 109- 110‏)‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ إِنَّا كَذَلِكَ ‏"‏ اخْتِيَارًا وَاسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 105‏)‏‏.‏

وَالثَّالِثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 62‏)‏ فَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ‏"‏ أَحَقُّ ‏"‏ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ‏:‏ بِالْعَكْسِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 140‏)‏ فَالْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَعْنِي ‏"‏ بِهَا ‏"‏؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَ مِنَ الثَّانِي لَمْ يَحْصُلِ الرَّبْطُ؛ لِوُجُوبِ الضَّمِيرِ فِيمَا وَقَعَ مَفْعُولًا ثَانِيًا أَوْ كَالْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ ‏"‏ سَمِعْتُمْ ‏"‏، وَلَوْ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْبَاتِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ الثَّانِي‏.‏